فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)}
اعلم أن قوله: {كَلاَّ} ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا وقصر الهمة والجهاد على تحصيلها والاتكال عليها وترك المواساة منها وجمعها من حيث تتهيأ من حل أو حرام، وتوهم أن لا حساب ولا جزاء.
فإن من كان هذا حاله يندم حين لا تنفعه الندامة ويتمنى أن لو كان أفنى عمره في التقرب بالأعمال الصالحة والمواساة من المال إلى الله تعالى، ثم بين أنه إذا جاء يوم موصوف بصفات ثلاثة فإنه يحصل ذلك التمني وتلك الندامة.
الصفة الأولى: من صفات ذلك اليوم قوله: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} قال الخليل: الدك كسر الحائط والجبل والدكداك رمل متلبد، ورجل مدك شديد الوطء على الأرض، وقال المبرد: الدك حط المرتفع بالبسط واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وناقة دكاء إذا كانت كذلك ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش، فمعنى الدك على قول الخليل: كسر كل شيء على وجه الأرض من جبل أو شجر حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء، وعلى قول المبرد: معناه أنها استوت في الانفراش فذهبت دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصخرة الملساء، وهذا معنى قول ابن عباس: تمد الأرض يوم القيامة.
واعلم أن التكرار في قوله: {دَكّاً دَكّاً} معناه دكاً بعد دك كقولك حسبته باباً باباً وعلمته حرفاً حرفاً أي كرر عليها الدك حتى صارت هباءً منثوراً.
واعلم أن هذا التدكدك لابد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة، فإذا زلزلت الأرض زلزلة بعد زلزلة وحركت تحريكاً بعد تحريك انكسرت الجبال التي عليها وانهدمت التلال وامتلأت الأغوار وصارت ملساء، وذلك عند انقضاض الدنيا وقد قال تعالى: {يوم ترجف الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7 6] وقال: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14] وقال: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 4، 5].
الصفة الثانية: من صفات ذلك اليوم قوله: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً}.
واعلم أنه ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله تعالى محال، لأن كل ما كان كذلك كان جسماً والجسم يستحيل أن يكون أزلياً فلابد فيه من التأويل، وهو أن هذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ثم ذلك المضاف ما هو؟
فيه وجوه:
أحدها: وجاء أمر ربك بالمحاسبة والمجازاة.
وثانيها: وجاء قهر ربك كما يقال جاءتنا بنو أمية أي قهرهم.
وثالثها: وجاء جلائل آيات ربك لأن هذا يكون يوم القيامة، وفي ذلك اليوم تظهر العظائم وجلائل الآيات، فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لشأن تلك الآيات.
ورابعها: وجاء ظهور ربك، وذلك لأن معرفة الله تصير في ذلك اليوم ضرورية فصار ذلك كظهوره وتجليه للخلق، فقيل: {وَجَاء رَبُّكَ} أي زالت الشبهة وارتفعت الشكوك.
خامسها: أن هذا تمثيل لظهور آيات الله وتبيين آثار قهره وسلطانه، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه، فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة مالا يظهر بحضور عساكره كلها.
وسادسها: أن الرب هو المربى، ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربي للنبي صلى الله عليه وسلم جاء فكان هو المراد من قوله: {وَجَاء رَبُّكَ}.
أما قوله: {والملك صَفّاً صَفّاً} فالمعنى أنه تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس.
الصفة الثالثة: من صفات ذلك اليوم قوله تعالى: {وَجِيء يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ} ونظيره قوله تعالى: {وَبرزت الجحيم لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] قال جماعة من المفسرين: جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، قال الأصوليون: ومعلوم أنها لا تنفك عن مكانها، فالمراد {وَبرزت} أي ظهرت حتى رآها الخلق، وعلم الكافر أن مصيره إليها، ثم قال: {يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} واعلم أن تقدير الكلام: إذا دكت الأرض، وحصل كذا وكذا فيومئذ يتذكر الإنسان، وفي تذكره وجوه:
الأول: أنه يتذكر ما فرط فيه لأنه حين كان في الدنيا كانت همته تحصيل الدنيا، ثم إنه في الآخرة يتذكر أن ذلك كان ضلالاً، وكان الواجب عليه أن تكون همته تحصيل الآخرة.
الثاني: يتذكر أي يتعظ، والمعنى أنه ما كان يتعظ في الدنيا فيصير في الآخرة متعظاً فيقول: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا} [الأنعام: 27].
الثالث: يتذكر يتوب وهو مروي عن الحسن، ثم قال تعالى: {وأنى لَهُ الذكرى} وقد جاءهم رسول مبين.
واعلم أن بين قوله: {يَتَذَكَّرُ} وبين قوله: {وأنى لَهُ الذكرى} تناقضاً فلابد من إضمار المضاف والمعنى ومن أين له منفعة الذكرى.
ويتفرع على هذه الآية مسألة أصوليه، وهي أن قبول التوبة عندنا غير واجب على الله عقلاً، وقالت المعتزلة: هو واجب فنقول: الدليل على قولنا أن الآية دلت هاهنا على أن الإنسان يعلم في الآخرة أن الذي يعمله في الدنيا لم يكن أصلح له وإن الذي تركه كان أصلح له، ومهما عرف ذلك لابد وأن يندم عليه، وإذا حصل الندم فقد حصلت التوبة، ثم إنه تعالى نفى كون تلك التوبة نافعة بقوله: {وأنى لَهُ الذكرى} فعلمنا أن التوبة لا يجب عقلاً قبولها، فإن قيل القوم: إنما ندموا على أفعالهم لا لوجه قبحها بل لترتب العقاب عليها، فلا جرم ما كانت التوبة صحيحة؟
قلنا: القوم لما علموا أن الندم على القبيح لابد وأن يكون لوجه قبحه حتى يكون نافعاً وجب أن يكون ندمهم واقعاً على هذا الوجه، فحينئذ يكونون آتين بالتوبة الصحيحة مع عدم القبول فصح قولنا.
ثم شرح تعالى ما يقوله هذا الإنسان فقال تعالى: {يَقول يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لحياتي (24)}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
للآية تأويلات:
أحدهما: يا ليتني قدمت في الدنيا التي كانت حياتي فيها منقطعة، لحياتي هذه التي هي دائمة غير منقطعة، وإنما قال: {لِحَيَاتي} ولم يقل: لهذه الحياة على معنى أن الحياة كأنها ليست إلا الحياة في الدار الآخرة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} [العنكبوت: 64] أي لهي الحياة.
وثانيها: أنه تعالى قال في حق الكافر: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} [إبراهيم: 17] وقال: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} [طه: 74] وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذي يَصْلَى النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} [الأعلى: 11- 13] فهذه الآية دلت على أن أهل النار في الآخرة كأنه لا حياة لهم، والمعنى فيا ليتني قدمت عملاً يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء.
وثالثها: أن يكون المعنى: فيا ليتني قدمت وقت حياتي في الدنيا، كقولك جئته لعشر ليال خلون من رجب.
المسألة الثانية:
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم وأنهم ما كانوا محجوبين عن الطاعات مجترئين على المعاصي وجوابه: أن فعلهم كان معلقاً بقصدهم، فقصدهم إن كان معلقاً بقصد آخر لزم التسلسل، وإن كان معلقاً بقصد الله فقد بطل الاعتزال.
ثم قال تعالى: {فَيومئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عذابهُ أحد (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أحد (26)}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قراءة العامة {يعذب} و{يوثق} بكسر العين فيهما، قال مقاتل معناه: فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق، والمعنى لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق، قال أبو عبيدة: هذا التفسير ضعيف لأنه ليس يوم القيامة معذب سوى الله فكيف يقال: لا يعذب أحد في مثل عذابه، وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه:
الأول: أن التقدير لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكافر يومئذ، والمعنى مثل عذابه ووثاقه في الشدة والمبالغة.
الثاني: أن المعنى لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد، أي الأمر يومئذ أمره ولا أمر لغيره.
الثالث: وهو قول أبي على الفارسي: أن يكون التقدير لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه، فالضمير في عذابه عائد إلى الإنسان.
وقرأ الكسائي {لا يعذب} و{لا يوثق} بفتح العين فيها واختاره أبو عبيدة، وعن أبي عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأهما بالفتح والضمير للإنسان الموصوف، وقيل: هو أبي بن خلف.
ولهذه القراءة تفسيران:
أحدهما: لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه، لتناهيه في كفره وفساد.
والثاني: أنه لا يعذب أحد من الناس عذاب الكافر، كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] قال الواحدي وهذه أولى الأقوال.
المسألة الثانية:
العذاب في القراءتين بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى الإيثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء في قوله:
أكفراً بعد رد الموت عن ** وبعد عطائك المائة الرتاعا

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ راضية مرضية (28)}
اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا، وصف حال من أطمأن إلى معرفته وعبوديته، فقال: {يا أيتها النفس}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
تقدير هذا الكلام.
يقول الله للمؤمن: {يا أيتها النفس} فإما أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك، وقال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهر لكنه خبر في المعنى، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله، وقال الله لها: {فادخلى في عِبَادِى وادخلى جَنَّتِى} [الفجر: 30 29] قال: ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم، كقولهم: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
المسألة الثانية:
الاطمئنان هو الاستقرار والثبات، وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه:
أحدها: أن تكون متيقنة بالحق، فلا يخالجها شك، وهو المراد من قوله: {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} [البقرة: 260].
وثانيها: النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، ويشهد لهذا التفسير قراءة أبي بن كعب {يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة}، وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] وتحصل عند البعث، وعند دخول الجنة لا محالة.
وثالثها: وهو تأويل مطابق للحقائق العقلية، فنقول: القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله، أما القرآن فقوله: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28].
وأما البرهان فمن وجهين:
الأول: أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات، فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته طلب العقل له سبباً آخر، فلم يقف العقل عنده، بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه، حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات ومنتهى الضرورات، فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه، ولم ينتقل عنه إلى غيره، فإذاً كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده، وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود، وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه، فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود.
الثاني: أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بامداد الله، وغير المتناهي لا يصير مجبوراً بالمتناهي، فلابد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له، حتى يحصل الاستقرار، فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن، وليست نفسه نفساً مطمئنة، أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله، فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله: {ارجعى إلى رَبّكِ راضية مرضية} وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد.
المسألة الثالثة:
اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] وقال: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وقال: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُوَّةَ أَعين} [السجدة: 17] وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء، فقال: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} [يوسف: 53] وتارة بكونها لوامة، فقال: {بالنفس اللوامة} [القيامة: 2] وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية.
واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك: (أنا) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين:
الأول: أن المشار إليه بقولك: (أنا) قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة، والمعلوم غير ما هو غير معلوم.
والثاني: أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك: (أنا) غير متبدل، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة، والمتبدل غير ما هو غير متبدل، فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية، وتقول: قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله: (أنا) حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق.
والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات، وقال آخرون: بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً.
المسألة الرابعة:
من القدماء من زعم أن النفوس أزلية، واحتجوا بهذه الآية وهي قوله: {ارجعى إلى رَبّكِ} فإن هذا إنما يقال: لما كان موجوداً قبل هذا البدن.
واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد؟
وفيه وجهان:
الأول: أنه إنما يوجد عند الموت، وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد، إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها.
الثاني: أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة، والمعنى: ارجعي إلى ثواب ربك، فادخلي في عبادي، أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه.
المسألة الخامسة:
المجسمة تمسكوا بقوله: {إلى رَبّكَ} وكلمة إلى لانتهاء الغاية وجوابه: إلى حكم ربك، أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب: الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها، أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر، ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود، فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات، أما قوله تعالى: {راضية مرضية} فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا، ويدل على صحة هذا التفسير، ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا! فقال عليه الصلاة والسلام: «أما إن الملك سيقولها لك» ثم قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جنتي (30)}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو بلدتك، فحول الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوله، وأنت قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية:
قوله: {ادخلى في عِبَادِى} أي انضمي إلى عبادي المقربين، وهذه حالة شريفة، وذلك لأن الأرواح الشريفة القدسية تكون كالمرايا المصقولة، فإذا انضم بعضها إلى البعض حصلت فيما بينها حالة شبيهة بالحالة الحاصلة عند تقابل المرايا المصقولة من انعكاس الأشعة من بعضها على بعض، فيظهر في كل واحد منها كل ما ظهر في كلها، وبالجملة فيكون ذلك الانضمام سبباً لتكامل تلك السعادات، وتعاظم تلك الدرجات الروحانية، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 91 90] وذلك هو السعادة الروحانية، ثم قال: {وادخلى جَنَّتِى} وهذا إشارة إلى السعادة الجسمانية، ولما كانت الجنة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء، لا جرم قال: {فادخلى في عِبَادِى} فذكر بفاه التعقيب، ولما كانت الجنة الجسمانية لا يحصل الفوز بها إلا بعد قيام القيامة الكبرى، لا جرم قال: {وادخلى جَنَّتِى} فذكره بالواو لا بالفاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.